و كما العادة في تلك القرية الصغيرة الهادئة التى تقبع في بقعة من بقاع الارض..يخرج الصبية الصغار ..يجتمعون واحدا تلو الاخر ..و من ثم يتجهون سويا لجمع بقية الاصدقاء ..يقفون خارج " الدار" و يطلقون اصواتهم جميعا منادين..و قبل ان يخرج صبينا..توصيه امه .."ما تتأخرش"..و لانها تعرف عن ابنها العناد..تجمع الصبية و تذكرهم بما سيجعلهم يخضعون لاوامرها :."ما تتأخروش علشان" الجنية ام دهب" اللى بتاكل العيال ".
حينها كان هذا هو المعتقد ..ففي مكان كالمكان الذي يلعبون فيه_ و هو ارض واسعة مترامية في طرف "البلد" من ورائها اراضي زراعية واسعة لا يتم التردد عليها كثيرا_ ما ان يدخل الليل ما ان تصبح هذه الفسحة من الارض مكانا موحشا لا يُفضل البقاء فيه..و لان انطلاق الصبية الصغار يتزامن مع وقت آذان المغرب إذن فلن يتاح لهم كثيرا من الوقت حتى يحل الظلام تماما و تظهر " الجنية ام ذهب" كما عرفت حينها..و ما يساعدها على الظهور ان حركة سكان القرية تقل ..حينها تستطيع الانفراد باحد الصبية .
انطلق الصبية..تمتعوا بالالعاب ..التى كانت على بدائيتها ممتعة و مرضية بالنسبة لهم ..سريعا دخل الليل ..و بدأت الحركة تقل حتى انعدمت تماما ..بدأ يهب نسيم مائل للبرودة ليتخلله بين الفينة و الاخرى ريح قوية ..حينها بدأت الجنية تقترب..توقف الصبية عن اللعب
صوت كصوت ارتطام قطع من الذهب يتصاعد ..حاولوا الاصغاء..وقفوا هناك متصلبين ..حاولوا مداراة خوفهم .. يخشى اى منهم ان يكون البادئ في اظهار هلعه ..و اذا بصبي اشتهر بافتقاره للشجاعة يستسلم مبكرا و بصوت مرتجف يقول:
" يلا بينا نروح بقى .. يلا الجنية جاية "
و لما ما وجد استجابة كما يريد علا صوته بالصراخ"اجرى يلا انت و هو .. هتاكولنا" جاءت كلماته مصاحبة لهبوب ريح عنيفة فاذا بصوت الذهب يتعالى بشده فيهرب الاولاد واحدا تلو الاخر ..الا صبينا ..لم يتزحزح..وقف هناك ..منتظرا ..لا يعلم لما انتظاره ..اهو شغفه ليرى تلك الجنية التى يُحكى عنها ..ام رغبة منه في اظهار اقصى درجات الشجاعة كما ينشد..ام ليثبت ان والدته ليست على حق فيما قالته.
انتظر هناك مواجهاً الاراضي الزراعية..مضت دقيقة ..دقيقتان .. كان يرتعش في داخله خوفا و لكنه وقف مثبتاً قدماه بشدة في الارض كأنما يخشى ان تخوناه و تضطراه الى الهروب.
و اذا بالصوت يعلو احيانا كأنها تقترب ..و يقل مرة اخرى كانما تبتعد ..و تمر الثوانى ..و يحسبها كانها سنون ..في انتظار و توقع..مر في خياله حينها صور شتى لما يكون عليه شكل هذه الجنية ..لعله يأهب نفسه للتصدى للمفاجأة التى ستخرج بين لحظة و اخرى من الزرع امامه..رغم انتظاره لم تظهر ..مهما انتظر ..لم تأتى.. ولكن الصوت لا يزال موجودا..فكر لبرهة..و بدأ يقترب ..كانما ارتأى ان كانت هى لن تقترب..فليذهب هو و ليكتشف بنفسه..تقدم يتلمس خطواته في هذا الظلام الحالك..ثم ثوقف بعد لحظات فاذا به تحت شجرة عملاقة الحجم ..متشعبة وعجوز تسمى هناك" شجرة اللبخ"..ثمارها كثيرة متدلية ..جافة تماما..تشبه في شكلها "قرون الفول" و لكنها اعرض و اطول و هى دوما جافة جدا لها لون الخشب مجوفة و بداخلها حبيبات.. ما ان تهتز هذه الثمار بفعل الريح تصطدم ببعضها محدثةً صوتا يشبه صوت ارتطام قطع الذهب..وقف صبينا مشدوها لفترة....فاتحا فمه بشكل غريب..و رأسه المعلقة للاعلى تحدق في الشجرة من فوقه ..احتاج وقتا ليستوعب آلية حدوث هذا الصوت ..وفجأة انطلق بالضحك ..ضحكا هستيريا..يجمع ما بين دهشته مما اكتشفه و خوفه ذاك الذي كاد يودى بحياته ..و اخذ يقفز فرحا بحق لاكتشافه.
يومها ما كان ليكتشف حقيقة الجنية التى يخشاها الجميع ..ما كان ليثبت انه صواب في ظنه ..و ان امه و الجميع مخطئين فيما اعتقدوه منذ زمن..ما كان ليفهم شيئا ان هو فرّ متجنبا المحاولة كما فعل اصدقاؤه ..كل ما احتاجه يومها ..ليس شجاعة ..و لكن القدرة على الاقتراب ليرى الامور على حقيقتها ..فذلك هو ما نحتاجه احيانا ..ان نقترب اكثر لتتوضح الامور امامنا.